2- اللحن الخفي: وهو في اللغة: المستتر. وفي الاصطلاح: خلل يطرأ على الألفاظ فيخل بالعُرف ولا يخل بالمبنى سواء أخل بالمعنى أم لم يخل.
- وسمي خفياً لأن معرفته مختصة بعلماء القراءة دون غيرهم، وهو نوعان:
1- يعرفه عامة القراء: كترك الإدغام في مكانه، والإظهار والإقلاب والإخفاء، وترقيق المفخم، وتفخيم المرقق، وتخفيف المشدد، وقصر الممدود، ومد المقصور، وترك الغُنَّة، وغنة ما لا يغن، وغير ذلك مما هو مخالف لقواعد التجويد.
2- لا يعرفه إلا المهرة من المقرئين: كتكرير الراءات، وترعيد الصوت بالمد والغنة، وزيادة المد في مقداره أو إنقاصه، وتطنين النونات، والزيادة أو الإنقاص من مقدار الغنة، وغير ذلك مما يخل باللفظ ويذهب برونقه.
- كما يكون في الحركات: كنطق الضمة التي بعدها سكون حركة بين الضمة والفتحة، ولتلافي ذلك لا بد من مراعاة ضم الشفتين عند كل ضمة بعدها سكون كما في: كُنْتُم، آمنتُم، هُم، عليكُم.
- وكذلك في الكسرة التي بعدها سكون، فإنها تنطق حركة بين الكسرة والفتحة، ولتلافي ذلك يقدم الفك الأسفل على الفك الأعلى عند كل كسرة بعدها سكون.
- وكذلك في الحركات الثلاث المتوالية فأكثر، فإن اللسان العربي يستثقل نطقها، لذلك يختلس جزء بعض الحركات فلا تكون حركة كاملة، كما في قوله: وَضَرَبَ، كَمَثَل، مَثَلُهُم، شَجَرَةِ، فَإِذَا... وغيرها.
وللتخلص من الاختلاس ندقق على الحركات كلها بحيث يكون الزمن واحداً في الجميع ولكن لا ينبغي الزيادة في التدقيق لئلا يتولد حرف مد.
- وكذلك في الكسرة التي بعدها ياء: فإن الياء والكسرة متجانسان غير أن الياء أقوى فتأكل الكسرة أو بعضها كما في (مالكِ يوم الدين)، فيلزم تحقيق كسرة الكاف من غير إشباع حتى لا تأكلها كلها أو بعضها الياء وحتى لا يتولد بعدها ياء مديَّة.
- وكذلك في الضمة التي بعدها واو: فإن الواو والضمة متجانسان غير أن الواو أقوى من الضمة فتأكلها كلها أو بعضها كما في (نعبدُو إياك)، فيلزم تحقيق ضمة الدال من غير إشباع حتى لا تأكلها كلها أو بعضها الواو وحتى لا يتولد بعدها واو مدّية.
ويكون أيضاً في الحروف، ومن ذلك:
- تخفيف الحرف المشدد، كما في (إياك) فإنها تقرأ لحناً بيا مخففة، وهذا من اللحن الخفي الذي يخل بالمعنى حيث (إياك) بالتخفيف معناها قرص الشمس.
وكتخفيف الراء المشددة في (ألرّحمن)، وهذا أيضاً من اللحن الخفي الذي يغير المعنى، فإنها إذا قرئت بالتخفيف يصبح المعنى استفهاماً عن كون الله عز وجل رحمنا أم لا، لذلك كان لا بد من مراعاة التشديد في الحروف المشددة.
- ويكون أيضاً في إشباع الحركات، فيتولد بعد الفتحة ألف- كما في (بثّ) و(تلك) فتصبحان (بثا) و(تلكا)- وبعد الضمة واو- كما في (وينشرُ) و(ويهبُ) فتصبحان (ينشرو) و(ويهبو)- وبعد الكسرة ياء- كما في (ملكِ) و(فأكرمنِ) فتصبحان (مالكي) و(فأكرمني).
لذلك كان لا بد من تحقيق الحركات بزمن يُقَدَّر بفتح الإصبع أو ضمه من غير إفراط ولا تفريط حتى لا تذهب الحركة أو بعضها ولا يتولد بعدها حرف مدٍّ مجانس لها.
وأكثر ما يحصل ذلك في الكسرة التي يأتي بعدها سكون عند الوقف، كما في (المدّثِر) و(فأنذِر) و(كبِر) فتصبح هذه الكلمات (المدَّثير) و(فأنذير) و(كبِّير) وهكذا.
- ويكون بحذف الهاء الساكنة أو تاء التأنيث المربوطة عند الوقف عليها، كما في (واستغفره) و(القارعة) حيث يوقف عليها لحناً هكذا (واستغفر) و(القارعَ)، لهذا كان لا بد من تحقيق الهاء الساكنة والتاء المربوطة التي يوقف عليها بهاء ساكنة بهمسها ورخاوتها.
- ويكون بأكل بعض الحرف إذا توالى الحرف سواء كان بكلمة واحدة كما (تتمارى) و(ووجدك) أو في كلمتين (فصل لربك) و(كيف فعل) وغير ذلك، لهذا كان لا بد من إحداث توازن بين الحرفين بحيث يستغرق نطق أحدهما نفس الزمن الذي يستغرقه الآخر.
- ويكون بأكل بعض الحرف الذلقي والواو عند الابتداء، وذلك لسهولة ويسر مخرجه كما في (فإذا، وإذا، لأمر، ربما، بئسما) وغيرها، لذلك لا بد من قراءتها بهدوء وبطء حتى لا يذهب بعض هذه الحروف، وأكثر ما يظهر ذلك عند الابتداء بالفاء أو الواو، غير أن ذلك كله يحتاج إلى مشافهة من المقرئين الحاذقين.
واللحن الخفي في نوعه الأول محرَّم، لأن القارئ إذا ترك الإظهار والغنة والإدغام والإخفاء والإقلاب والمد والقصر، فماذا بقي من أحكام التجويد، وكيف توصف التلاوة بعد ذلك بالصحة؟
إن ترك هذه الأحكام لا يتفق مع قواعد التجويد المجمع عليها بين عامة المسلمين.
يقول ابن الجزري في النشر: (ولا شك أن هذه الأمة كما هم متعبدون بتفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها). أ. هـ .
ومما يؤكد لنا هذا موقف عبد الله بن مسعود ممن قرأ ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ من غير مد مع أن ذلك لا يغير المعنى ثم قرأها عليه ممدودة، فهذا يدل على أنه تلقاها من الرسول صلى الله عليه وسلم ممدودة (كما سبق).
غير أنني أرى ما ذهب إليه بعض علماء التجويد من أن النوع الثاني من اللحن الخفي ليس بمحرَّم لأنه يحتاج إلى مهارة فائقة وذوق رفيع، وهذا لا يتوافر عند الكثير، لكن ينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه بالتدريب والتمرين حتى يكون حاذقاً ماهراً.
* وخلاصة القول:
فالناس في قراءتهم: إما محسن مأجور، وإما مسيء مأجور أو مأزور.
أما المحسن المأجور: فهو الذي درس التجويد وأتقنه وقرأ القرآن فجوده من غير لحن مطلقاً، فهذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة».
وأما المسيء المأجور: فهو الذي في لسانه عوج لا يتمكن من نطق الحروف إما خلقة وإما عجمة ويسعى باذلاً جهده لإزالة ذلك من لسانه ولم يجد من يساعده على ذلك، فهذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».
وأما المسيء المأزور: (الآثم) فهو الذي قدر على تصحيح كلام الله العربي الفصيح وعدل به إلى اللفظ الأعجمي أو النبطي مستغنياً بنفسه مستبداً برأيه متكلاً على ما ألف من حفظه مستكبراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه، فإن مثل هذا تكون قراءته عليه وليست له، ويكون عليه في كل حرف لا يعطيه حقه أو مستحقه إثم، فانظر كم يقرأ ذلك المسكين من القرآن وهو على هذه الحال وهو يظن أنه يحسن صنعاً والسيئات تتراكم عليه بمئات الألوف بل بالملايين وهو لا يدري. ولا أشبهه إلا بذلك الراهب الذي رآه عمر رضي الله عنه في الشام قد نحل جسمه وهزل وظهرت عليه شدة العبادة وكثرتها فبكى عمر رضي الله عنه لحاله لأن عبادته تلك التي على غير نهج الله ستكون سبباً في دخوله النار.
وهنا قد يرد سؤال: هل من كان على هذه الحال ننصحه بترك قراءة القرآن الكريم حتى لا يأثم؟ أقول إجابة على هذا السؤال: يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ ولا يخلو أي قارئ من الصواب في قراءته فإذا أصاب كان له في كل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، وكان عليه في الحروف الخطأ على كل حرف سيئة فيطرح هذا من هذا، ويبدو والله أعلم بحسب حال القارئ أنه ستكون حسناته أكثر، والله أعلم.
أسأل الله العلي القدير أن يرزقني وإياكم حسن الإتباع والسير على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة.