لمعرفة سبب النزول فوائد أهمها:
(أ) بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام، وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث رحمة بالأمة.
(ب) تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وهي مسألة خلافية سيأتي لها مزيد من الإيضاح، وقد يمثل لهذا بقوله تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران:188] «فقد روي أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل يعذب لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب. ثم تلا ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران:187] قال ابن عباس: سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه».
(ج) إذا كان لفظ ما نزل عاماً وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تقصر التخصيص على ما عدا صورته، ولا يصح إخراجها، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني، وهذا هو ما عليه الجمهور وقد يمثل لهذا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْـمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ23/24يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 24/24يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْـمُبِينُ﴾ [النور:23-25]. فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة، أو فيها وفي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، «عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ﴾ الآية: نزلت في عائشة خاصة» وعن ابن عباس في هذه الآية أيضاً «هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة- ثم قرأ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ﴾...إلى قوله... ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ [النور:4-5]» وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف وإن كان مخصصاً لعموم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾ لا يتناول بالتخصيص من قذف عائشة، أو قذف سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا لا توبة له، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي.
(د) ومعرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معاني القرآن، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يعرف سبب نزولها، قال (الواحدي) لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها)) وقال ((ابن دقيق العيد)) ((بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن)) وقال ((ابن تيمية)) ((معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب)) ومن أمثلة ذلك: ما أشكل على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران:188] حتى أورد له ابن عباس سبب النزول.
ومثله آية ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:158] فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمساً بالظاهر، وقد ردت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا إساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: «عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، أنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، ولكنها إنما أنزلت، إن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ﴾ الآية قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما».
(هـ) ويوضع سبب النول من نزلت فيه الآية حتى لا تحمل على غيره بدافع الخصومة والتحامل. كالذي ذكر في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف:17] فقد أراد (معاوية) أن يستخلف (يزيد) وكتب إلى (مروان) عامله على المدينة بذلك، فجمع الناس وخطبهم ودعاهم إلى بيعة (يزيد) فأبى عبد الرحمن بن أبي بكر أن يبايع، فأراده (مروان) بسوء لولا أن دخل بيت عائشة، وقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي﴾ فردت عليه عائشة وبينت له سبب نزولها، «عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبابع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا﴾ فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري» وفي بعض الروايات «أن مروان لما طلب البيعة ليزيد قال: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا﴾ الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته».
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إذا اتفق ما نزل مع السبب في العموم، أو اتفق معه في الخصوص، حمل العام على عمومه، والخاص على خصوصه.
ومثال الأول قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222] عن أنس قال: «إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح».
وفي مثال الثاني قوله: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى17/92الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى18/92وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى19/92إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى20/92وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل:17-21] فإنها نزلت في أبي بكر، والتقى: أفعل تفضيل مقرون بأل العهدية فيختص بمن نزل فيه، وإنما تفيد أل العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع على الراجح، وأل في الأتقى ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل، والأتقى ليس جمعاً، بل هو مفرد، والعهد موجود لا سيما وأن صيغة أفعل تدل على التمييز، وذلك كاف في قصر الآية على من نزلت فيه: ولذا قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين: «عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله: بلال، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وأم عيسى، وأمة بني الموئل، وفيه نزلت ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾ إلى آخر السورة». وروى نحوه عن عامر بن عبد الله بن الزبير وزاد فيه: «فنزلت فيه الآية ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى﴾ إلى قوله ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى19/92إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى20/92وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.
أما إذا كان السبب خاصاً ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون: أتكون العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب.
1- فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحكم الذي يؤخذ من اللفظ العام يتعدى صورة السبب الخاص إلى نظائرها، كآيات اللعان التي نزلت في قذف هلال بن أمية زوجته «فعن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله: إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، ونزل جبريل فأنزل عليه ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ حتى بلغ ﴿إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾... فيتناول الحكم المأخوذ من هذا اللفظ العام﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ غير حادثة هلال دون احتياج إلى دليل آخر. وهذا هو الرأي الراجح والأصح، وهو الذي يتفق مع عموم أحكام الشريعة، والذي سار عليه الصحابة والمجتهدون من هذه الأمة فعدّوا بحكم الآيات إلى غير صورة سببها. كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت، أو سلمة بن صخر- على اختلاف الروايات في ذلك، والاحتجاج بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائع لدى أهل العلم، قال ابن تيمية: ((قد يجيء هذا كثيراً ومن هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصاً كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن قوله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم﴾ [المائدة:48] نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خيراً يمدح أو يذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته)).
2- وذهب جماعة إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فاللفظ العام دليل على صورة السبب الخاص، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه، حتى يبقى لنقل رواية السبب الخاص فائدة، ويتطابق السبب والمسبب تطابق السؤال والجواب.
* المصدر:
كتاب: مباحث في علوم القرآن: الشيخ مناع القطان.