أسباب النزول

watch_later الجمعة، 5 أغسطس 2016
نزل القرآن ليهدي الإنسانية إلى المحجة الواضحة، ويرشدها إلى الطريق المستقيم، ويقيم لها أسس الحياة الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله ورسالاته، ويقرر أحوال الماضي، ووقائع الحاضر، وأخبار المستقبل.
وأكثر القرآن نزل ايتداء لهذه الأهداف العامة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في حياتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شاهدوا أحداث السيرة، وقد يقع بينهم تحادث خاص يحتاج إلى بيان شريعة الله فيه، أو يلتبس عليهم أمر فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لمعرفة حكم الإسلام فيه، فيتنزل القرآن لذلك الحادث، أو لهذا السؤال الطارئ، ومثل هذا يعرف بأسباب النزول.
عناية العلماء به:
وقد اعتنى الباحثون في علوم القرآن بمعرفة سبب النزول، ولمسوا شدة الحاجة إليه في تفسير القرآن فأفرده جماعة منهم بالتأليف، ومن أشهرهم: (علي بن المديني) شيخ البخاري، ثم (الواحدي) في كتابه: أسباب النزول، ثم (الجعبري) الذي اختصر كتاب (الواحدي) بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئاً، ثم شيخ الإسلام (ابن حجر) الذي ألف كتاباً في أسباب النزول أطلع السيوطي على جزء من مسودته ولم يتيسر له الوقوف عليه كاملاً، ثم (السيوطي) الذي قال عن نفسه: (وقد ألفت فيه كتاباً حافلاً موجزاً محرراً لم يؤلف مثله في هذا النوع، سميته (لباب المنقول في أسباب النزول).
ما يعتمد عليه في معرفة سبب النزول:
والعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عن الصحابة، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحاً لا يكون بالرأي، بل يكون له حكم المرفوع، قال الواحدي: (لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلب) وهذا هو نهج علماء السلف، فقد كانوا يتورعون عن أن يقولوا شيئاً في ذلك دون تثبت، قال (محمد بن سيرين) (سألت(عبيدة) عن آية من القرآن فقال: اتق الله وقل سدادا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن) وهو يعني الصحابة. وإذا كان هذا هو قول (ابن سيرين) من أعلام علماء التابعين تحرياً للرواية، ودقة في الفصل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة، ولذا فإن المعتمد من ذلك فيما روي روي من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول.
وذهب (السيوطي) إلى أن قول التابعي إذا كان صريحاً في سبب النزول فإنه يقبل، ويكون مرسلاً، إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير الذين أخذوا عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، واعتضد بمرسل آخر)).
وقد أخذ (الواحدي) على علماء عصره تساهلهم في رواية سبب النزول، ورماهم بالإفك والكذب، وحذرهم من الوعيد الشديد، حيث يقول: ((أما اليوم فكل أحد يخترع شيئاً، ويختلق إفكاً وكذباً، ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية)).
تعريف السبب:
وسبب النزول بعد هذا التحقيق يكون قاصراً على أمرين:-
1- أن تحدث حادثة فيتنزل القرآن الكريم بشأنها، وذلك كالذي روي عن ابن عباس قال: «لما نزلت ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214] خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه (فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك، إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام، فنزلت هذه السورة ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1]».
2- أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فيتنزل القرآن بيان الحكم فيه، كالذي كان من خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فذهبت تشتكي من ذلك: عن عائشة قالت: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ وهو أوس بن الصامت».
ولا يعني هذا أن يلتمس الإنسان لكل آية سبباً، فإن القرآن لم يكن نزوله وقفاً على الحوادث والوقائع، أو على السؤال والاستفسار، بل كان القرآن يتنزل ابتداء، بعقائد الإيمان، وواجبات الإسلام، وشرائع الله تعالى في حياة الفرد وحياة الجماعة، قال (الجعبري): ((نزل القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال)).
هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال.
ومن الإفراط في علم سبب النزول أن نتوسع فيه، ونجعل منه ما هو من قبيل الأخبار عن الأحوال الماضية، والوقائع الغابرة، قال (السيوطي) والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [النساء:125] سبب اتخاذه خليلاً، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى)).

* المصدر:
كتاب: مباحث في علوم القرآن: الشيخ مناع القطان.



sentiment_satisfied Emoticon