قصة زكريا عليه السلام

watch_later الاثنين، 8 أغسطس 2016
وردت قصة زكريا عليه السلام في ثلاثة مواضع من كتاب الله- تبارك وتعالى- وذلك في سورة آل عمران، وسورة مريم، وسورة الأنبياء.
وأحداث قصته تتمثل في دعوته لقومه، وطلبه الولد من أجل أن يكون خليفة على قومه من بعده، وبشراه بيحيى، وكفالته لمريم، وقتله على يد بني إسرائيل.
ونتناول تحت هذا العنوان دعوته ودعاءه وبشراه وقتله، ونرجئ الكلام عن كفالته لمريم حتى تأتي قصتها ضمن قصة ولدها عيسى عليه السلام فنقول:
زكريا عليه السلام هو ابن برخيا بن مسلم بن صدوق، يتصل نسبه بسليمان بن داود عليهم السلام، أرسله الله إلى قومه من بني إسرائيل فدعاهم إلى الله فلم يستجيبوا له، ولم يؤمن به إلا القليل منهم، وظل يدعوهم إلى الله- على بصيرة- حتى كُبرت سنّه، ووهن عظمه، ويبس عوده، واشتعل رأسه شيباً، وكانت امرأته لا تلد، فخشى على قومه أن يضلوا من بعده- فسأل الله عز وجل أن يهبه من فضله من يلي الأمر من بعده ويرث علمَه وعلمَ علماء بني إسرائيل من آل يعقوب- عليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم- فاستجاب الله له وبشره بغلام اسمه (يحيى) لم يجعل الله له من قبل مثيلاً في زهده وعفته ونبله وتقواه، وهنا يتملك زكريا العجبُ من هذا الأمر الذي بشر به، ويصاب بالدهشة، وتملأ الفرحة قلبه، ويسأل الله علامة يعرف بها أن امرأته قد حملت بما بشر به، فأخبره الله عز وجل أن علامة ذلك أن يجد نفسه غير قادر على الكلام ثلاثة أيام بلياليهن من غير أن يكون في لسانه ما يعاب به.
فلما خرج على قومه وأراد أن يأمرهم بالصلاة كعادته لم يجد في لسانه قدرة على مخاطبتهم، لكنه إذا أراد أن يذكر الله بلسانه وجد نفسه قادراً على ذلك، فأشار إليهم بيده أن سبحوا، أي صلوا بكرة وعشياً، فعلم القوم أن امرأته قد حملت بيحيى، فشاركوه فرحته وجدوا في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير شكراً لله عز وجل.
وظل زكريا عليه السلام ينتظر الغلام حتى استهل بسلامٍ، ففرحت به طوائف المؤمنين من الرجال والنساء على السواء.
قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء38/3فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ39/3قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء40/3قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ [آل عمران:38-41].
أي: في هذا المقام الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات وهي في محرابها تتعبد، وفي هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كله بأشواق التطلعات إلى السموات العلى، وشعوره بحلاوة القرب ولذة المعرفة- رفع أكف الضراعة إلى ربه تبارك وتعالى أن يهبه من لدنه ذرية طيبة طاهرة نقية السريرة محمودة السيرة، وهو السميع المجيب لمن دعاه بلسانه حاله ومقاله.
وفي سورة مريم بين الله مقامه في الضراعة، وإلحاحه في الدعاء، ويكشف عن مقصده من هذا الطلب، فقال: ﴿كهيعص1/19ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا2/19إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا3/19قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا4/19وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا5/19يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [1-6].
ففي هذه الآيات يشكو زكريا إلى الله ضعف جسمه ووهن عظمه ودُنوَّ أجله، وخشيته على مواليه- وهم أتباعه وأنصار دينه- أن يضلوا من بعده، فدعا الله أن يرزقه وليّاً يلي الأمر من بعده، ويحمل ما حمله هو والأحبار من قبله من علمٍ ومعرفة.
ونظر إلى خطواته التي يخطوها إلى ربه في دعائه.
إنه أولاً نادى ربه نداءً خفياً لم يعلم به أحد من قومه، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ ولم يقل: وهن عظمي، كأنه يقول: وهن عظمي من غير تقصير مني ولكن حدث هذا بسبب كبر سني.
وقال: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ ولم يقل: وشاب شعر رأسي، للدلالة على أنه ما من شعرة في رأسه بقيت على حالها، حتى إنه يبدو للناظر من شدة البياض أن جلدة الرأس أيضاً قد اعتراها الشيبَ، وهذا كناية عن شدة الكبر ودنو الأجل.
وقال: ﴿وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ أي: إنك يا مولاي قد عودتني على التيسير وما خيبت رجائي أبداً، والشقي: هو الذي لا تجيب دعاءه ولا تقبل رجاءه، وهو اعترافٌ نصبه تمهيداً للتقدم بهذا الدعاء على هذا النحو الذي يدل على عمق الإيمان وصدق اليقين، إذا هو يعلم سلفاً أن الإنجاب بالنسبة إليه أمر بعيد المنال بل هو من المستحيلات، لكنه يعلم علم اليقين أن الله قادر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبهذا المنطق الإيماني، وبهذا الرجاء الواسع الفسيح في رحمة الله التي لا تُحد بحد- رفع زكريا عليه السلام أكف الضراعة فكان الله عند حسن ظنه به، فاستجاب له وبشره بيحيى على لسان ملائكته، كما قال: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أي مصدقاً بعيسى عليه السلام وهو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم.
﴿وَسَيِّدًا﴾ يسود قومه بكماله الوافر، وخلقه الفاضل، وسلوكه النبيل.
﴿وَحَصُورًا﴾ مصوناً لا يميل إلى النساء بطبعه، وهو من الصالحين الذين اكتملت فيهم أوصاف الصلاح على قدر درجته في مراتب النبيين.
فالصلاح أمر نسبي يتفاوت درجات المؤمنين، فكل صالح يوصف بأوصاف تقف به عند مرتبته من الولاية أو النبوة.
وقد وصف الله يحيى عليه السلام بأوصاف أخرى سيأتي ذكرها في قصته.
وقد أوجز الله دعاء زكريا عليه السلام في سورة الأنبياء، وأثنى عليه وعلى زوجه ثناءً حسناً فقال: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ 89/21فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:89-90].
إنه عليه السلام كان مبتلى بالحرمان من الولد فصبر على هذا البلاء واحتسب أجره على الله تعالى، وظل يدعو الناس إلى التوحيد الخالص، ويطهر قلوبهم من الدنس بمواعظه البليغة ونصائحه الغالية، ويقوّم أخلاقهم بما أوتيه من حكمة وفطنة، وهم قوم غلاظ الطباع قساة القلوب، يمسي الرجل منهم مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بدنياه.
فلما كبرت سنه ووهن عظمه وجد نفسه وحيداً ليس له من يعينه على هداية القوم فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ أي: لا تتركني وحيداً أعاني ما أعاني من صدود قومي وإعراضهم عن الهدى، وهو بهذه الدعوة يطلب من الله عز وجل- بأدب جم وإخلاص تام- أن يهبه من صلبه وليّاً يعينه على هداية قومه في حياته، ويخلفه فيهم بعد مماته.
ويتجلى أدبه السامي في قوله: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ حيث إنه أفصح عما في قلبه من توكل على الله يجعله لا يعتمد على أحد سواه، فهو وإن طلب الولد لم يطلبه ليعتمد عليه، أو ليورثه علمه من أجل أن يقوم بما كان يقوم به امتداداً له؛ لعلمه أن الله وحده هو الذي يتولى شؤون عباده بقدرته وفق إرادته وعلمه، وما الولد إلا سبب من الأسباب ووسيلة من الوسائل، والله جل شأنه هو مسبب الأسباب، فإن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، فإن كان ولده الذي سيهبه له- إن شاء، ومتى شاء- سيكون وارثاً له فهو- جل شأنه- خير الوارثين، فالاعتماد كل الاعتماد عليه والثقة كل الثقة به، وهذا هو التوكل في أسمى صوره، وأبهى معانيه.
وفي قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ ما يكشف للموحدين عن آيات قدرته، ودلائل حبه للمخلصين له من عباده، وفي قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ثناء على زكريا وولده يحيى وزوجه- واسمها (اليصابات) من نسل هارون عليه السلام- وهذا الثناء هو تعليل حسن لسرعة الإجابة، فمن سارع في الخيرات أسرع الله له في إجابة دعوته وقضاء حوائجه.
وقد مات زكريا عليه السلام شهيداً، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرة لقتله، كلها أو معظمها لا يصح.
من أشهرها ما ذكره ابن الأثير في (الكامل)، فقد ذكر أن يحيى لما قتل وسمع أبوه بقتله، فر هارباً بستاناً عند بيت المقدس فيه أشجار، فأرسل الملك في طلبه- وهو الملك الذي قتل يحيى كما سيأتي- فمر زكريا بشجرة، فنادته هلم إلى يا بني الله، فلما أتاها انشقت فدخلها فانطبقت عليه وبقي في وسطها، فأتى عدو الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدقوه إذا أخبرهم، ثم لقي الطَّلَب- أي من يطلبه- فأخبرهم، فقال لهم: ما تريدون، فقالوا: نلتمس زكريا، فقال: إنه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، قالوا: لا نصدقك، قال: فإن لي علامة تصدقونني بها، فأراهم طرف ردائه، فأخذوا الفئوس وقطعوا الشجرة اثنتين وشقوها بالمنشار، فمات زكريا، فسلط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم.
هذا ما ذكره ابن الأثير وغيره من أصحاب السير.
ودخول زكريا عليه السلام في الشجرة لا أصل له، ولكنه محض افتراء، ونحن لا يعنينا كيف قتل، ولا يعينا من قتله؛ لأن ذلك مما لا يضر الجهل به.
وقد كاد المؤرخون يجمعون على أنه قتل، وهو واحد من كثير قتلته بنو إسرائيل بغياً وعَدواً، كما صرح بذلك القرآن الكريم في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة:61].
•    المصدر: قصص القرآن الكريم: د. بكر إسماعيل.



sentiment_satisfied Emoticon