قصة يحيى عليه السلام

watch_later الاثنين، 8 أغسطس 2016
يحيى عليه السلام نبي مرسل، أرسله الله إلى بني إسرائيل في حياة أبيه عليه السلام، وكان حكيماً أوتى الحكمة في صباه، ووهبه الله حناناً من لدنه، وزاده بركة وتقىً، وجعله سيداً على أهل زمانه، وحصر همته في طاعته، وقصر هواه في عبادته، ولم يجعل له في النساء رغبة مع قدرته على إتيانهن في الحلال لو شاء.
وقد زوده الله بالعلم فحفظ التوراة عن ظهر قلب، وعمل بكل ما فيها على وجه التمام؛ لذا وصفه الله بأوصاف جمعت شُعَبَ الإيمان كلها.
وقد تقدمت بعض أوصافه في قصة أبيه زكريا عليهما السلام، وهي التي جاءت في قوله جل شأنه: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران:39].
وجاءت بقية أوصافه في سورة مريم قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا12/19وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا13/19وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا14/19وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم:12-15].
والكتاب الذي أمر أن يأخذه بقوة هو التوراة، ومعنى: ﴿خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ تدبره جيداً، واحفظه كاملاً، واعمل به جاهداً، وأمر قومك بذلك، وقم بواجب الشكر لربك الذي وهبك هذه النعم، ورباك على موائد العز والكرم، وجعلك نبياً مرسلاً وابن نبي مرسل، وسماك يحيى ليحيا ذكْرُك  في النفوس المؤمنة، ولم يسم أحداً من قبلك بهذا الاسم.
والمراد بالحكم في قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ الحكمة وليست النبوة؛ لأن سنة الله قد جرت على أن يبعث الأنبياء على سن الأربعين.
ويقال إنه: بعث قبل الأربعين خصوصية له عليه السلام، فقد كان عليه السلام بما معه من الحكمة لا يلهو كما يلهو الصبيان، ولا يلعب كما يلعبون، ولكنه صحب أباه في صغره وكبره، وحنا عليه، وأحسن إليه، وكان باراً به وبأمه براً صار مضرب الأمثال، ولم يكن يوماً يتظاهر بما يتظاهر به أمثاله في الحسب والنسب، بل كان مثال التواضع الجم، ولم يكن يعصي لأبويه أمراً في ليل أو نهار، وقد ترك الله ذكراه في النفوس المؤمنة، وألقى في قلوبهم محبته بحيث يسلم عليه كل من يذكره كما يسلم على سائر الأنبياء والمرسلين.
وقد منحه الله سلاماً منه عند مولده، وعند موته، وعند بعثه حياً من قبره، والسلام من الله رضا، وحفاوة وتكريم، وإجلال وتعظيم.
وقد ولد عيسى بن مريم عليه السلام في عصره فباركه ودعا له، ولما شب عيسى عليه السلام رافق ابن خالته يحيى وشاركه آلامه وآماله، وشد من أزره في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل وهم قوم قساة القلوب، وغلاظ الطباع، لا يستجيبون بسهولة إلى نصح الناصحين، ولا يؤمنون لرسول إلا وهم مشركون.
وقد وجد منهم يحيى عليه السلام في دعوتهم إلى الإيمان صدوداً وعنتاً وإعراضاً حتى كاد يكف عن تعليمهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولا عزمة من عزمات ربه عز وجل.
روى أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند حسن صحيح من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب، فجمع يحيى الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعد على الشَّرَف قال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو وَرِق فقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غيره، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك!، وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يكن يلتفت، وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة، معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه إلا أن يراجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنم، فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟، قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله».
هذا وقد مات يحيى عليه السلام شهيداً في حياة أبيه، وقد جاء في كتب التاريخ في سبب قتله روايات الله أعلم بصحتها.
فمن هذه الروايات ما قيل إن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج بامرأة من محارمه، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فكان في نفسها منه شيء، فلما تزوجها الملك استوهبته دم يحيى- أي استأذنت منه في قتله، فأذن لها فأرسلت إليه من قتله وهو يصلي وجاء برأسه إليها، فهلكت من فورها.
وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحايلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.
وذكر ابن الأثير في (الكامل) رواية تقارب الرواية الأولى فقال: بعث الله عيسى رسولاً فنسخ بعض أحكام التوراة، فكان مما نسخ أنه حرم نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم واسمه (هيرودس) بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها فنهاه يحيى عنها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها لها الملك، فلما بلغ أمها قالت لها: إذا سألك الملك ما حاجتك؟ فقولي: أن تذبح يحيى بن زكريا، فلما دخلت عليه وسألها: ما حاجتك؟ قالت: أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير ذلك، قالت: ما أسألك غيره، فلما أبت دعا بيحيى، ودعا بطست فذبحه، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرت عيني، فصعدت السطح فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضاربة تحته، فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر، وكان آخر ما أكل منها عيناها لتعبير.
﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾.
•    المصدر: قصص القرآن الكريم: د. بكر إسماعيل.



sentiment_satisfied Emoticon