لما أهلك الله عاداً بذنوبهم، وطهر الأرض من أرجاسهم، أورثها ثمود فعمروها
أكثر مما عمروها، وفجروا فيها العيون والآبار، وغرسوا فيها الحدائق
والبساتين، ونحتوا لهم في الجبال بيوتاً، ووسع الله عليهم في الرزق، وأمدهم
بأنعام وبنين، فطغوا وبغوا، وعبدوا غيره، وكانوا أشد من قوم عاد ظلما
وعلواً، وكانوا يسكنون بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام،
فأرسل الله إليهم صالحاً بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر
بن إرم بن سام بن نوح، عليه وعلى جميع الأنبياء السلام.
فدعاهم إلى عبادة الله، وحضهم على توحيده، فهو الذي خلقهم، وعمر بهم الأرض، واستخلفهم فيها، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
ونهاهم عن عبادة الأصنام فإنها لا تنفعهم ولا تضرهم، ولا تملك لهم من الله شيئاً، وحذرهم مغبة الشرك، وعاقبة الظلم والإفساد في الأرض.
وذكرهم بأواصر التي تربطه بهم، ووشائج النسب التي تصل بينه وبينهم، فهم قومه وأبناء عشيرته، وقد عاش فيهم عمراً طويلاً، يحسن إلى صغيرهم وكبيرهم، وما جربوا عليه من كذب ولا خيانة، وما عرفوه إلا رجلاً كريماً حليماً ودوداً، رشيداً سديداً في أقواله وأفعاله، فما عليهم إلا أن يستجيبوا إليه ويؤمنوا به، وقد جاءهم بالبينات من ربه، وأتاهم بما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو لا يرجو منهم على دعوته أجراً، ولا يريد أن يكون عليهم ملكاً، وما أمرهم بما يشق عليهم، بل أمرهم أن يعبدوا الله ويستغفروه ويتوبوا إليه، فهو لمن دعاه قريب، ولمن سأله مجيب.
قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ [هود:61].
لكن القوم قد صموا آذانهم عن هذه الدعوة الكريمة، وتمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وهزئوا برسولهم وأنكروا عليه نبوته، ولاموه فيها، وأنبوه على صدورها منه، وارتابوا في أمره.
﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [هود:62].
أي قالوا: يا صالح لقد عهدناك ثاقب الفكر، مصيب الرأي، لا تقول إلا حقاً، ولا تتكلم إلا بخير، وكنا ندخرك لمُلمَّات الدهر، تضئ ظلماتها بنور عقلك، وتحل معضلاتها بصائب رأيك، وكنا نرجو أن تكون عُدَّتَنا حين يحزب الأمر ويشتد الخطب، فنطقت هُجراً وأتيت نكراً، ما هذا الذي تدعونا إليه؟! أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا، وقد درجنا عليه ونشأنا متمسكين به! إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب، ولا نطمئن إلى قولك، ولا نثق بصدق دعوتك ولن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، ونميل مع هواك وزيفك.
فحذرهم مخالفته وأعلن فيهم رسالته، وذكرهم بما أسبغ الله عليهم من نعمه، وخوفهم بأسه وبطشه، وأبان لهم أنه لا يرجو من وراء دعوته نفعاً، ولا يطمع في مغنم، أو يتطلع إلى رياسة، وهو لم يسألهم أجراً على الهداية، ولا يطلب جزاءً على النصيحة، وإنما أجره على الله رب العالمين، درءاً لكل شبهة قد تساور نفوسهم، ودفعاً لكل شك قد يجول في خواطرهم.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْـمُرْسَلِينَ141/26إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ142/26إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ143/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ144/26وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ145/26أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ146/26فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ147/26وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ148/26وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ149/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ 150/26وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْـمُسْرِفِينَ151/26الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء:141-152].
وتمادى القوم في غيهم وضلالهم، وأغلظوا له في القول، واتهموه بالسحر، وسألوه معجزة تكون دليلاً على صدقه، وبرهاناً على صحة دعوته، وتفننوا في هذا الطلب وغلوا فيه وبالغوا، سخرية منهم به، واستهزاء بدعوته.
ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في نادهم فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم، ووعظهم وأمرهم ونهاهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة- وأشاروا إلى الصخرة هناك- ناقة، من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموها، وتعنتوا فيها، فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقونني فيما أرسلت به إليكم، قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه لله عز وجل ما قدر له أن يصلي، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوه، فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن بعضهم واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء:59].
وقد سميت هذه الناقة «ناقة الله» تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها. واشترط عليهم صالح عليه السلام أن يتركوها ترعى في أرض الله تعالى، ولا يتعرضوا لها بسوء حتى لا يصيبهم العذاب الأليم، واقتضى الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوماً بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجاتهم من الماء في يومهم لغدهم، ويقال إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم، قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف:73].
وقال تعالى: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ155/26وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء:155-156].
فلما طالت عليهم هذه الحال اجتمع ملؤهم، واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها، ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم.
قال تعالى: ﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف:77].
وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم قدّار بن سالف، بمعونة ثمانية من أفراد القبيلة كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ48/27قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل:48-49].
أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله أن نذهب إلى صالح في بيته، فنقتله هو وأهله، ثم نقول لوليه- أي لعصبته- ما قتلناه ولا شهدنا قتله، وظنوا أنهم قادرون على ذلك، ولكن الله كان من ورائهم محيطاً.
قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ50/27فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51/27فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ52/27وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [النمل:50-53].
وقد متعهم الله في ديارهم بعد قتل الناقة ثلاثة أيام، في اليوم الأول اصفرت وجوهم، وفي اليوم الثاني احمرت وجوههم، وفي اليوم الثالث اسودت وجوههم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود:65].
وفي صبيحة اليوم الرابع جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفلهم فغاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أروح فيها، ولا حراك بها.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ66/11وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ 67/11كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ [هود:66-68].
وقال جل شأنه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا11/91إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا12/91فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا13/91فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا14/91وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس:11-15].
وبقد كان الطغيان هو السبب في تكذيب ثمود، وكان كفرهم وعقرهم الناقة هو السبب في إهلاكهم.
وقد عرفنا من سياق الآيات أن الذي قتل الناقة واحد منهم، تعاون معه في قتلها آخرون، لكن التبعة تقع عليهم جميعاً، لأنهم لم يأخذوا على يد الظالم، ولم يمنعوه من عقرها، بل استحسنوا فعلته، واستخفوا بوعيد الله عز وجل، فسوى الله أرضهم، ودمرها عليهم تدمير من لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102].
* * *
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.
فدعاهم إلى عبادة الله، وحضهم على توحيده، فهو الذي خلقهم، وعمر بهم الأرض، واستخلفهم فيها، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
ونهاهم عن عبادة الأصنام فإنها لا تنفعهم ولا تضرهم، ولا تملك لهم من الله شيئاً، وحذرهم مغبة الشرك، وعاقبة الظلم والإفساد في الأرض.
وذكرهم بأواصر التي تربطه بهم، ووشائج النسب التي تصل بينه وبينهم، فهم قومه وأبناء عشيرته، وقد عاش فيهم عمراً طويلاً، يحسن إلى صغيرهم وكبيرهم، وما جربوا عليه من كذب ولا خيانة، وما عرفوه إلا رجلاً كريماً حليماً ودوداً، رشيداً سديداً في أقواله وأفعاله، فما عليهم إلا أن يستجيبوا إليه ويؤمنوا به، وقد جاءهم بالبينات من ربه، وأتاهم بما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو لا يرجو منهم على دعوته أجراً، ولا يريد أن يكون عليهم ملكاً، وما أمرهم بما يشق عليهم، بل أمرهم أن يعبدوا الله ويستغفروه ويتوبوا إليه، فهو لمن دعاه قريب، ولمن سأله مجيب.
قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ [هود:61].
لكن القوم قد صموا آذانهم عن هذه الدعوة الكريمة، وتمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وهزئوا برسولهم وأنكروا عليه نبوته، ولاموه فيها، وأنبوه على صدورها منه، وارتابوا في أمره.
﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [هود:62].
أي قالوا: يا صالح لقد عهدناك ثاقب الفكر، مصيب الرأي، لا تقول إلا حقاً، ولا تتكلم إلا بخير، وكنا ندخرك لمُلمَّات الدهر، تضئ ظلماتها بنور عقلك، وتحل معضلاتها بصائب رأيك، وكنا نرجو أن تكون عُدَّتَنا حين يحزب الأمر ويشتد الخطب، فنطقت هُجراً وأتيت نكراً، ما هذا الذي تدعونا إليه؟! أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا، وقد درجنا عليه ونشأنا متمسكين به! إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب، ولا نطمئن إلى قولك، ولا نثق بصدق دعوتك ولن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، ونميل مع هواك وزيفك.
فحذرهم مخالفته وأعلن فيهم رسالته، وذكرهم بما أسبغ الله عليهم من نعمه، وخوفهم بأسه وبطشه، وأبان لهم أنه لا يرجو من وراء دعوته نفعاً، ولا يطمع في مغنم، أو يتطلع إلى رياسة، وهو لم يسألهم أجراً على الهداية، ولا يطلب جزاءً على النصيحة، وإنما أجره على الله رب العالمين، درءاً لكل شبهة قد تساور نفوسهم، ودفعاً لكل شك قد يجول في خواطرهم.
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْـمُرْسَلِينَ141/26إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ142/26إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ143/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ144/26وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ145/26أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ146/26فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ147/26وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ148/26وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ149/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ 150/26وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْـمُسْرِفِينَ151/26الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء:141-152].
وتمادى القوم في غيهم وضلالهم، وأغلظوا له في القول، واتهموه بالسحر، وسألوه معجزة تكون دليلاً على صدقه، وبرهاناً على صحة دعوته، وتفننوا في هذا الطلب وغلوا فيه وبالغوا، سخرية منهم به، واستهزاء بدعوته.
ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في نادهم فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم، ووعظهم وأمرهم ونهاهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة- وأشاروا إلى الصخرة هناك- ناقة، من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموها، وتعنتوا فيها، فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقونني فيما أرسلت به إليكم، قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه لله عز وجل ما قدر له أن يصلي، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوه، فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن بعضهم واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء:59].
وقد سميت هذه الناقة «ناقة الله» تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها. واشترط عليهم صالح عليه السلام أن يتركوها ترعى في أرض الله تعالى، ولا يتعرضوا لها بسوء حتى لا يصيبهم العذاب الأليم، واقتضى الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوماً بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجاتهم من الماء في يومهم لغدهم، ويقال إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم، قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف:73].
وقال تعالى: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ155/26وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء:155-156].
فلما طالت عليهم هذه الحال اجتمع ملؤهم، واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها، ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم.
قال تعالى: ﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف:77].
وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم قدّار بن سالف، بمعونة ثمانية من أفراد القبيلة كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ48/27قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل:48-49].
أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله أن نذهب إلى صالح في بيته، فنقتله هو وأهله، ثم نقول لوليه- أي لعصبته- ما قتلناه ولا شهدنا قتله، وظنوا أنهم قادرون على ذلك، ولكن الله كان من ورائهم محيطاً.
قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ50/27فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51/27فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ52/27وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [النمل:50-53].
وقد متعهم الله في ديارهم بعد قتل الناقة ثلاثة أيام، في اليوم الأول اصفرت وجوهم، وفي اليوم الثاني احمرت وجوههم، وفي اليوم الثالث اسودت وجوههم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود:65].
وفي صبيحة اليوم الرابع جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفلهم فغاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أروح فيها، ولا حراك بها.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ66/11وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ 67/11كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ [هود:66-68].
وقال جل شأنه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا11/91إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا12/91فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا13/91فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا14/91وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس:11-15].
وبقد كان الطغيان هو السبب في تكذيب ثمود، وكان كفرهم وعقرهم الناقة هو السبب في إهلاكهم.
وقد عرفنا من سياق الآيات أن الذي قتل الناقة واحد منهم، تعاون معه في قتلها آخرون، لكن التبعة تقع عليهم جميعاً، لأنهم لم يأخذوا على يد الظالم، ولم يمنعوه من عقرها، بل استحسنوا فعلته، واستخفوا بوعيد الله عز وجل، فسوى الله أرضهم، ودمرها عليهم تدمير من لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102].
* * *
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.