تفرقت ذرية نوح عليه السلام بعد موته في الأرض ليعمروها، فمنهم من سكن
الشام، ومنهم من استوطن العراق، ومنهم من أقام في مصر، واتخذ قوم عاد لهم
سكناً شرقي عدن باليمن قرب ساحل البحر الأحمر يقال له الأحقاف، والأحقاف:
جمع حقف، وهي الرمال الغزيرة والروابي المرتفعة، وكانت أرضهم قاحلة يقل
فيها الماء، ويعتمدون في السقيا على ماء المطر.
وقد أمدهم الله بأنعام وبنين، وجنات وعيون، وزادهم في الخلق بسطة وقوة لا مثيل لها، كما قال جل شأنه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6/89إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ7/89الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر: 5-8] أي مثل قبيلة عاد، وليس هناك بلد تسمى إرم- كما يظن كثير من الناس- ليس في البلاد مثلها، بل إرم اسم جد لهم، وتسمى هذه القبيلة عاد إرم، وسميت أيضاً في القرآن بعاد الأولى وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى﴾ [النجم:50] وهم أبناء عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
وقد كان هؤلاء القوم يعبدون الله عز وجل على دين أبيهم نوح عليه السلام زمناً، فلما طال بهم العمر قست قلوبهم وساءت أخلاقهم، وفسدت طباعهم، واجتالتهم الشياطين، فسولت لهم عبادة الأصنام، فاتخذوها آلهة، يدعونها رغباً ورهباً كما كان يفعل قوم نوح عليه السلام، فأرسل الله إليهم رسولاً من أنفسهم، هو هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
فدعاهم إلى التوحيد الخالص، والدين القين بلغتهم التي يتكلمون بها وهي العربية.
كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم:4] وكان من أوسطهم نسباً، وأعرقهم حسباً، وأفصحهم لساناً، وأعذبهم بياناً، فأدلى إليهم بالحجج المقنعة والبراهين الساطعة على صدق ما دعاهم إليه، وحضهم عليه، وأنذرهم به، وحذرهم منه فأعرضوا عنه، وأغلظوا له القول، واتهموه بالسفه والجنون والكذب.
وقالوا: يا هود ما أنت إلا سفيه طائش الحلم، فاسد العقل، كيف تعيب آلهتنا، وتعيب ما وجدنا عليه آباءنا؟ من أنت من بيننا؟ وبأي شيء تتميز علينا، حتى يخصك الله بالرسالة من بيننا؟ هلّا اختار لها عظيماً من عظمائنا ذا مال وسعة وجاه وسيادة؟.
قال هود عليه السلام: يا قوم ليس بي سفاهة عقل ولا حماقة رأي، وما جربتم عليَّ مِنْ كذب، ولقد لبثت فيكم عمراً طويلاً لم تروا مني إلا خيراً، وما العجب في أن يختص الله واحداً من خلقه برسالته ويؤتيه من لدنه علماً وقدرة على تبليغها بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، ففكروا بعقولهم فيما دعوتكم إليه، وانفذوا إلى حقائق هذا الكون ببصائركم، تروا أن كل شيء في هذا الوجود يدل على أن الله واحد لا شريك له، فآمنوا به، واستغفروه يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال فوق أموالكم، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين، واعلموا أنكم بعد موتكم سوف تبعثون، من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، فتدبروا لأنفسكم وخذوا الأهبة لآخرتكم، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ولكني أراكم قوماً تجهلون.
ولكنهم لووا رؤوسهم، ودارت أعينهم ميمنة وميسرة وقالوا يا هود: ما جئتنا بخير، وما أتيت على قولك هذا ببينة، وما نقول إلا أن إلهاً من آلهتنا قد أصابك بسوء فأفسد عليك عقلك ورأيك، ثم ما هذا الاستغفار الذي يرسل الله به السماء علينا مدراراً ويمدنا بالمال ويزيدنا في القوة؟، وما يوم البعث تزعم أننا نعود فيه بعد أن نصبح عظاماً نخرة، وجثثاً بالية؟، هيهات هيهات لما تعد وتزعم، وما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
ثم ما العذاب الذي تعدنا وتتوقع أن نلقاه؟، إننا لن نذعن لما تقول، ولن نرجع عن عبادة آلهتنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
فلم تبين له أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم، وتبرأ منهم، وتحداهم أن يصيبوه بسوء إن استطاعوا، فلم يستطع أحد على كثرتهم وقوتهم أن يناله بأذى، وفي هذا التحدي معجزة على صدق دعوته.
ولعلهم سألوه عن السر الذي عصمه منهم، والقوة التي حالت بينهم وبينه، فأخبرهم بأنه قد توكل على الذي بيده نواصي الخلق جميعاً، فعصمه منهم؛ لأنه هو صاحب الأمر والقوة، الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر.
﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ53/11إِن نَّقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ54/11مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ55/11إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [هود:53-56].
وظل هود عليه السلام يترقب ما يحل بهم، فما هي إلا أيام حتى رأوا سحابة سوداء قد أظلتهم، فحسبوها من السحب الممطرة، ففرحوا واستبشروا وهيأوا أنفسهم لاستقبالها، فأخبرهم أنها العذاب الذي استعجلوه، قد حل بساحتهم ونزل بواديهم.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ24/46تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْـمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف:24-25].
واستمرت هذه الريح حتى أتت على آخرتهم في سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، فجعلتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ونجىّ الله هوداً ومن معه من المؤمنين، كما نجا نوحاً ومن معه من قبل في الفلك المشحون، وتلك سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وقد وردت أطراف هذه القصة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء، وفصلت، والأحقاف، والذاريات والقمر، والحاقة والفجر وغيرها.
* * *
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.
وقد أمدهم الله بأنعام وبنين، وجنات وعيون، وزادهم في الخلق بسطة وقوة لا مثيل لها، كما قال جل شأنه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6/89إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ7/89الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر: 5-8] أي مثل قبيلة عاد، وليس هناك بلد تسمى إرم- كما يظن كثير من الناس- ليس في البلاد مثلها، بل إرم اسم جد لهم، وتسمى هذه القبيلة عاد إرم، وسميت أيضاً في القرآن بعاد الأولى وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى﴾ [النجم:50] وهم أبناء عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
وقد كان هؤلاء القوم يعبدون الله عز وجل على دين أبيهم نوح عليه السلام زمناً، فلما طال بهم العمر قست قلوبهم وساءت أخلاقهم، وفسدت طباعهم، واجتالتهم الشياطين، فسولت لهم عبادة الأصنام، فاتخذوها آلهة، يدعونها رغباً ورهباً كما كان يفعل قوم نوح عليه السلام، فأرسل الله إليهم رسولاً من أنفسهم، هو هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
فدعاهم إلى التوحيد الخالص، والدين القين بلغتهم التي يتكلمون بها وهي العربية.
كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم:4] وكان من أوسطهم نسباً، وأعرقهم حسباً، وأفصحهم لساناً، وأعذبهم بياناً، فأدلى إليهم بالحجج المقنعة والبراهين الساطعة على صدق ما دعاهم إليه، وحضهم عليه، وأنذرهم به، وحذرهم منه فأعرضوا عنه، وأغلظوا له القول، واتهموه بالسفه والجنون والكذب.
وقالوا: يا هود ما أنت إلا سفيه طائش الحلم، فاسد العقل، كيف تعيب آلهتنا، وتعيب ما وجدنا عليه آباءنا؟ من أنت من بيننا؟ وبأي شيء تتميز علينا، حتى يخصك الله بالرسالة من بيننا؟ هلّا اختار لها عظيماً من عظمائنا ذا مال وسعة وجاه وسيادة؟.
قال هود عليه السلام: يا قوم ليس بي سفاهة عقل ولا حماقة رأي، وما جربتم عليَّ مِنْ كذب، ولقد لبثت فيكم عمراً طويلاً لم تروا مني إلا خيراً، وما العجب في أن يختص الله واحداً من خلقه برسالته ويؤتيه من لدنه علماً وقدرة على تبليغها بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، ففكروا بعقولهم فيما دعوتكم إليه، وانفذوا إلى حقائق هذا الكون ببصائركم، تروا أن كل شيء في هذا الوجود يدل على أن الله واحد لا شريك له، فآمنوا به، واستغفروه يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال فوق أموالكم، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين، واعلموا أنكم بعد موتكم سوف تبعثون، من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، فتدبروا لأنفسكم وخذوا الأهبة لآخرتكم، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ولكني أراكم قوماً تجهلون.
ولكنهم لووا رؤوسهم، ودارت أعينهم ميمنة وميسرة وقالوا يا هود: ما جئتنا بخير، وما أتيت على قولك هذا ببينة، وما نقول إلا أن إلهاً من آلهتنا قد أصابك بسوء فأفسد عليك عقلك ورأيك، ثم ما هذا الاستغفار الذي يرسل الله به السماء علينا مدراراً ويمدنا بالمال ويزيدنا في القوة؟، وما يوم البعث تزعم أننا نعود فيه بعد أن نصبح عظاماً نخرة، وجثثاً بالية؟، هيهات هيهات لما تعد وتزعم، وما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
ثم ما العذاب الذي تعدنا وتتوقع أن نلقاه؟، إننا لن نذعن لما تقول، ولن نرجع عن عبادة آلهتنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
فلم تبين له أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم، وتبرأ منهم، وتحداهم أن يصيبوه بسوء إن استطاعوا، فلم يستطع أحد على كثرتهم وقوتهم أن يناله بأذى، وفي هذا التحدي معجزة على صدق دعوته.
ولعلهم سألوه عن السر الذي عصمه منهم، والقوة التي حالت بينهم وبينه، فأخبرهم بأنه قد توكل على الذي بيده نواصي الخلق جميعاً، فعصمه منهم؛ لأنه هو صاحب الأمر والقوة، الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر.
﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ53/11إِن نَّقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ54/11مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ55/11إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [هود:53-56].
وظل هود عليه السلام يترقب ما يحل بهم، فما هي إلا أيام حتى رأوا سحابة سوداء قد أظلتهم، فحسبوها من السحب الممطرة، ففرحوا واستبشروا وهيأوا أنفسهم لاستقبالها، فأخبرهم أنها العذاب الذي استعجلوه، قد حل بساحتهم ونزل بواديهم.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ24/46تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْـمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف:24-25].
واستمرت هذه الريح حتى أتت على آخرتهم في سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، فجعلتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ونجىّ الله هوداً ومن معه من المؤمنين، كما نجا نوحاً ومن معه من قبل في الفلك المشحون، وتلك سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وقد وردت أطراف هذه القصة في سورة الأعراف وهود والمؤمنون والشعراء، وفصلت، والأحقاف، والذاريات والقمر، والحاقة والفجر وغيرها.
* * *
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.