قصة يونس عليه السلام

watch_later الاثنين، 8 أغسطس 2016
يونس بن متى رسول من أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله إلى أهل (نينوى) بأرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فلم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به، فغضب منهم غضباً شديداً، وظن أنهم لن يؤمنوا به أبداً فخرج من نينوى متوجهاً إلى ساحل البحر وركب سفينة، فحملته إلى وسط البحر ومعه خلق كثير، فإذا بالريح تهب عليهم من كل صوب وحدب، والسفينة تتأرجح وتضطرب، وظن أهلها أنه قد أحيط بهم، فأرادوا أن يتخففوا منها بإلقاء واحد منهم في البحر، فإن سكنت الريح وهدأت سفينتهم فبها، وإلا ألقوا رجلاً آخر وهكذا، فطرحوا السهام على من يبدأون بإلقائه، فخرج السهم على يونس عليه السلام فألقوه في اليم، فأمر الله حوتاً أن يلتقمه، ويحفظه في بطنه، ولا يؤذيه، فالتقمه الحوت، وهو مُلامٌ من قِبَل أصحاب السفينة لأنهم كانوا يعتقدون- على ما قيل- أن السفينة إن اضطربت في البحر، كان اضطرابها بسبب عبد آبق من سيده، وقيل لما طرحوا السهام وخرج السهم عليه ضنوا به؛ لما رأوا على وجهة من السماحة والوجاهة، فأعادوا طرح السهام ثلاثة مرات، وفي كل مرة يخرج السهم عليه، فألقوه بعد أن لاموه على هروبه من سيده، ولم يعلموا أنه حر طليق.
ولبث يونس في بطن الحوت ما شاء الله أن يلبث، فلما علم أنه كان مخطئاً في خروجه من نينوى، وتركه الموطن الذي أمره الله أن يجاهد فيه- تاب وأناب، وسبح بحمد ربه وأثنى عليه بما هو أهله.
فلما فعل ذلك أمر الله الحوت أن يلفظه على الشاطئ، فلفظه وهو سقيم يتوجع، فأنبت الله عليه في الحال شجرة من (يقطين) لتقيه من وهج الشمس ولفح البرد.
ولما شعر يونس عليه السلام بالهدوء والراحة، وأحس بسلامة الجسم، وأنه قادر على السير توجه إلى نينوى، فهاله ما رأى فقد رآهم بخير وعافية، وكان الله عز وجل قد أخبره أن القوم سيهلكون بعد ثلاثة أيام- على ما قيل- فلما سأل عن السبب في نجاتهم من هذا الهلاك المتوقع عرف أن القوم قد خرجوا عن بكرة أبيهم، ومعهم نساؤهم وأطفالهم، ودوابهم وأنعامهم إلى الخلاء، وأعلنوا إيمانهم بالله رباً وبيونس عليه السلام رسولاً خوفاً من أن ينزل بهم العذاب الذي توعدهم به يونس، وقد تأكدوا من صدقة في ذلك حين رأوه قد فارقهم، وخرج من أرضهم.
هذه خلاصة القصة التي قصها علينا ربنا تبارك وتعالى في أربعة مواضع من كتابه العزيز.
وذلك في سورة الأنبياء، والصافات، والقلم، ويونس، فما أجمل منها في موضع فصل في موضع آخر، فقال جل شأنه في سورة الأنبياء: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ87/21فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْـمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:87-88].
وقال في سورة الصافات: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْـمُرْسَلِينَ139/37إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ140/37فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْـمُدْحَضِينَ141/37فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ142/37فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْـمُسَبِّحِينَ143/37لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ144/37فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ145/37وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ146/37وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ147/37فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [الصافات:139-148].
وقال في سورة القلم: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ48/68لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ49/68فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 48-50].
وقال في سورة يونس: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس:98].
ولابد لنا من نظرة فاحصة في هذه الآيات لنرى مواطن العبرة والعظة فيها، ولنلمح مواقع هذه الآيات بعضها من بعض على غرار ما فعلنا في قصة إلياس عليه السلام وغيرها من القصص.
فقوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَذَا النُّونِ﴾ معناه: واذكر صاحب الحوت، فالنون هو الحوت- كما قال علماء اللغة- وذو النون هو يونس عليه السلام كما صرحت به سورة الصافات.
وقد جاء ﴿النون﴾ بمعنى الحوت في سورة القلم في قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾.
وقوله: ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾ يفسره قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ ومعنى ابق: هرب- كما يقول الراغب في مفرداته- ولعله هرب من قومه لما رآهم قد كذبوه واجمعوا على قتله، فالمغاضبة كانت من الطرفين، مما أدى إلى مفارقتهم توقياً من آثار غصبهم.
وقد ذكرت في كتابي (سورة الصافات دراسة تحليلية) السر في إيثار لفظ (ابق) على لفظ (هرب)، فقلت: لعل الله وصف خروجه بالإباق، وهو إنما يوصف به العبد غالباً إذا فر من وجه سيده؛ لأنه عبد لله تعالى قد فر من قدره إلى قدره من غير أن يأذن له، فاستحق هذا الوصف لأنه أخطأ في الاجتهاد، وخطؤه في الاجتهاد لا يعدو أن يكون قد أتى بما يخالف الأولى، فالأنبياء يجتهدون في الأمور التي لم ينزل بها وحي، فإن أخطأوا في الاجتهاد لا يترتب على خطئهم تحريم حلال ولا إحلال حرام، وبالتالي لا يكون خطؤهم من قبيل الخطيئة الموجبة للذم، فكل خطيئة خطأ، وليس كل خطأ خطيئة.
وقد خرج يونس باجتهاده من قرية إلى قرية أخرى لعله يجد فيها من يؤمن به ويستجيب لدعوته، ولعله حاكى لوطاً عليه السلام في خروجه من (سدوم) حين علم أن العذاب نازلٌ بأهلها.
لكن الفرق بين الخروجين كبير، فلوط عليه السلام قد أمره الله بالخروج فخرج بخلاف يونس فإنه لم يؤمر بالخروج، فلماذا خرج!
ولذلك عاقبه الله على خروجه هذا بحبسه مدة في بطن الحوت، ولم يكن هذا عقاباً على ذنب اقترفه ولكن كان على خطأ وقع فيه، وخطؤه من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ معناه: أن لن نضيق عليه بمحاصرته في السفينة وسجنه في بطن الحوت، ورده إلى بلده مرة أخرى للقاء هؤلاء الذين أغضبهم وأغضبوه.
وسورة الصافات لم تبين هذا الظن الذي وقع في قلبه، كما لم تبين سورة الأنبياء أنه ركب في الفلك المشحون وأن من في الفلك قد طرحوا هذه السهام لإلقاء الهارب من سادته في اليم، ولكن بينته سورة الصافات.
وبينما لم تبين سورة الصافات ما قاله يونس عليه السلام في تسبيحه سورة الأنبياء فقال جل شأنه: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
وقد قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ وبينت سورة الصافات كيفية النجاة بقوله جل شأنه: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ145/37وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ أي: طرحناه بعيداً عن الماء، وهو في حالة يرثى لها من الإرهاق والحزن، وأنبتنا عليه في الحال شجرة ذات ثمار تشبه (القرع)، وقال بعض المفسرين: هو كل ما ينبسط على الأرض ولا يقوم على ساق، كشجر البطيخ والقثاء والحنظل.
وقد أضافت سورة الصافات شيئاً لم يأت له ذكر في غيرها، فقد أخبر الله عز وجل أنه أرسله إلى قوم كثيري العدد يزيدون ولا ينقصون، فقال جل شأنه: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ والمعنى: بل يزيدون، فالحرف (أو) بمعنى بل، كقوله تعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74] أي: بل أشد قسوة، وكقوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم:9] أي: بل أدنى من ذلك، وفي ذكر هذا العدد إشارة إلى عظمة هذا النبي في منطقه وشخصيته، وقدرته على إقناع قومه بصدق ما أرسل به إليهم.
وقد أخبر الحق جل شأنه في هذه السورة أن القوم قد آمنوا به، فمتعهم الله بحياة طيبة إلى منتهى أعمارهم فقال: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.
وليس هناك قرية آمنت عن بكرة أبيها إلا قوم يونس، كما قال جل شأنه في السورة التي سميت باسمه: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.
والخلاصة والعبرة من هذه القصة أن القلوب المؤمنة حين تمر بها تزداد إيماناً على إيمان، ويقيناً على يقين بأن الحق أحق أن يتبع، وتفتح أبواب الأمل للدعاة والمرشدين في هداية الضالين والغاوين، فإذا كان قوم يونس على كثرتهم قد آمنوا به جميعاً، ولم يتخلف منهم عن الإيمان أحد؛ فليس ببعيد عن الله تعالى أن يهدى الكثير والكثير من هذه الأمة المحمدية.
ومن هذه القصة تعلم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الصبر في مواطن الشدة والبأس، وفي مواجهة أعداء الله وأعداء الإنسانية، وكيف تكون مجالدة الفارين من دعوة الحق والضالين عن الهدى، وذلك من خلال حديثه عن إباق يونس إلى الفلك المشحون، وذهابه مغاضباً دون أن يصطبر على قومه، فكان من أمره ما كان، ولهذا نهاه الله أن يعجل على قومه كما تعجل يونس على قومه، فيقول جل شأنه: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي: لا تكن مثله في هذه الحال، ومعنى مكظوم: محبوس أو مهموم، وليس في ذلك النهي تجريح ليونس عليه السلام ولا تقليل من شأنه، بدليل قوله تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
•    المصدر: قصص القرآن الكريم: د. بكر إسماعيل.



sentiment_satisfied Emoticon