هاجر لوط بن هاران بن تارح مع عمه إبراهيم- عليهما السلام- إلى مصر ثم إلى
الشام فاجتمع لديهما مال كثير ضاق به الوادي، فاستأذن لوط عليه السلام عمه
الخليل في الرحيل إلى أرض أخرى فأذن له عليه السلام، فاستقر به المقام في
قرية كبيرة يقال لها سدوم. فوجد فيها قوماً لم تعرف البشرية في تاريخها
الطويل أفجر ولا أكفر ولا أخبث منهم، فقد كانوا يقطعون السبيل على المارة،
ويسلبون أموالهم ويزهقون أرواحهم ويأتون في ناديهم المنكر، نهاراً جهاراً،
بعضهم أمام بعض، دون خجل أو وجل، وهذا غاية التدنى والإسفاف في عالم
الإنسان، إلى درجة لا ينزل إليها كثير من عالم الحيوان.. حيث تأبى على بعض
الحيوان طبيعته أن يتصل بأنثاه على مرأى من بني جنسه! بَلْه اتصاله بذكر،
الأمر الذي لم تعرفه الكائنات الحية، إلا في هذا الصنف الرذل الخسيس من
الناس.
ولما كان الله عز وجل لا يعذب قوماً بذنوبهم حتى يبعث فيهم رسولاً يدعوهم إلى عبادته، والدخول في طاعته، ويزكيهم بما آتاه الله من العلم والحكمة- بعث فيهم لوطاً عليه السلام فدعاهم إلى التوحيد الخالص، وزجرهم عن الأفعال المنكرة التي يأتونها، والتي لم يسبقوا إليها، فأبوا عليه، وانصرفوا عنه، وازدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم، وأوصى بعضهم بعضاً بإخراج لوط من قريتهم.
قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:56].
ألا ما أفجرهم وأخبثهم حالاً ومآلاً ينبذون الطهر والأطهار، ويرضون لأنفسهم حياة الذل والعار، ولا يخافون من سوء العاقبة التي توعدهم الله بها على لسان نبيه لوط عليه السلام.
ولقد تلطف بهم لوط عليه السلام زمناً طويلاً، ودعاهم إلى الله على بصيرة بأسلوب حكيم متوج بالبراهين الساطعة، والحجج المقنعة، شأنه في ذلك شأن جميع الأنبياء، ولكن القوم صموا آذانهم وصمموا على إخراجه من قريتهم، فدعا ربه أن ينصره عليهم.
يقول الله عز وجل: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْـمُرْسَلِينَ160/26إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ 161/26إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ162/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ163/26وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ164/26أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ165/26وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ166/26قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْـمُخْرَجِينَ167/26قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ168/26رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء:160-169].
وتتصل أحداث قصة إبراهيم بأحداث قصة لوط، وينتقل المشهد من بين يدي إبراهيم إلى يدي لوط، فإذا هو وجهاً لوجه مع هؤلاء الرسل، الذين يحملون الهلاك إلى قومه.
وكما كان لقاء الملائكة لإبراهيم لقاءً مفاجئاً، أثار في نفسه ريبة، وأوقع في قلبه خوفاً، كذلك كان لقاؤهم للوط لقاءً مباغتاً له، ولكنه لم يلتفت إلى هؤلاء الوافدين عليه إلا من جهة واحدة، كانت هي مبلغ همه، ومبعث خوفه وقلقه، وهي أن يحمى هؤلاء الضيوف من عدوان قومه عليهم، وفضحه فيهم.
فقد طلع عليه الملائكة في صورة سوية من صور البشر، فيهم الشباب والنضارة والجمال، وتلك هي مغريات قومه بهم، وإنه ليرى من بعيد ما سيكون من قومه، إذا رأوا هؤلاء الضيوف الذين نزلوا بساحته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود:77].
سيء بهم: أي ساءه وآلمه نزولهم عنده، واحتماؤهم به.
وضاق بهم ذرعاً: أي أحس العجز عن حمايتهم، لأنه يتصدى وحده لقومه جميعاً، وأصل الذرع من الذراع التي يعملها الإنسان في تناول الأشياء ثم استعملت استعمالاً مجازياً في الدلالة على قدرة الإنسان أو عجزه، حسب طول ذراعه أو قصرها.
والإحساس بالمسؤولية الملقاة على لوط لحماية ضيوفه، هو الذي آلمه وأوجعه، وضيق مسالك النجاة بهم في وجهه، فقال: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي يوم قاس، شديد الوقع على النفس، لما سيطلع عليه فيه من أحداث مزلزلة، توقعه في هذا المأزق، وتفتح بينه وبين قومه مجالاً فسيحاً للصراع بين جبهتين غير متكافئتين.
ولقد وقع ما توقعه لوط عليه السلام فقد سمع القوم بضيفه فجاءوا يسرعون إليه يطلبون منه أن يمكنهم منهم، فوبخهم شر توبيخ، وذكرهم بالله الذي بيده نواصيهم، وحذرهم مغبة الفضيحة والعار، وردهم إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولكنهم أساءوا إليه القول، وأغلظوا له في السب، وأعلنوا أنه لابد لهم من ضيفه، وأنهم لا حاجة لهم في النساء، فعندئذ قال لوط في نفسه: لو كان لدى رجال مؤمنون ينصرونني، أو آوى إلى قوم لديهم نخوة وغيرة على الحرمات يحمونني.
يقول الله عز وجل: ﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ 78/11قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ 79/11قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود:78-80].
وانظر كيف تبلغ السفاهة بالقوم إلى هذا الحد القذر، إذ جاءوه جماعة يقتحمون عليه أسوار بيته بلا خجل ولا استحياء ليفعلوا الفاحشة مجتمعين، وليس أوزاعاً متفرقين، وعندما عرض عليهم بنات القرية ليتزوجوهن ويستمتعوا بهن حلالاً طيباً، يقولون له في وقاحة: ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ إننا لا نريد إلا الذكران.
وماذا يفعل لوط أمام هؤلاء القوم، الذين ركبوا رؤوسهم، فانقلبت في أعينهم أوضاع الأشياء، وتغيرت معالمها؟.
ولكن الله كان معه، وهو-جل شأنه- لن يتخلى عن رسله في أوقات الشدة، ولن يتركهم نهباً لأولئك الضالين، فأدركته عنايته، وأنطق رسله بالبشرى التي كان ينتظرها، وبالهلاك الذي كان ينتظرهم:
﴿قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود:81].
والأمر الذي توجه به الملائكة إلى لوط عليه السلام هو أن يخرج بأهله في بقية من الليل قبل أن يطلع الصبح، وألا يلتف هو ومن معه إلى الوراء حيث القرية التي تركوها وراء ظهورهم.
وفي النهي عن الالتفات إلى تلك القرية ومن فيها إشارة إلى أنها دار إثم، ومباءة فسق، ينبغي أن يقطع المؤمن كل مشاعره نحوها، فلا يتبعها بصره، ولا يلقى عليها نظرة وداع، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن مع كل منكر أن يعتزله، ويعتزل مواطنه والمتعاملين به، فلا يحوم حوله، ولا يمر بداره ولا يتصل بأهله، فإن المنكر مرض خبيث، يَعْلَق داؤه بكل من يدنو منه، أو يتنفس في الجو الذي تفوح عفونته فيه.
ولهذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين حين مروا بديار ثمود، وهم في طريقهم إلى تبوك- أمرهم أن يجدّوا في السير، وألا يلتفتوا إلى هذه المواطن وأن يغلقوا حواسهم عنها، حتى لا يدخل عليهم شيء منها، شأنهم في هذا شأن من يمر بجثث متعفنة، تهب منها ريح خبيثة فيسد أنفه وينطلق مسرعاً حتى يبرحها، وفي هذا درس عملي للتشنيع على المنكر وأهله.
ولما جاء الصبح الموعود، وقع الأمر الذي قضاه الله وقدره، أمر جبريل عليه السلام فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من نار جهنم مُعلَّمة، كل حجر يقع على من يشاء الله أن يقع عليه لا يخطئه ولا يصيب غيره، فذهبت معالم القرية بأسرها، وصار أهلها حديثاً تتناقله الأجيال، وآية للذين يخافون العذاب الأليم، وذلك جزاء الظالمين لم يعرفوا للحق موطناً، ولم يراعوا في رسولهم عهداً ولا ذمة.
وقد ذكرت هذه القصة لتكون عبرة لمشركي مكة ومن حولها على وجه الخصوص وللناس جميعاً على وجه العموم.
* * *
ولما كان الله عز وجل لا يعذب قوماً بذنوبهم حتى يبعث فيهم رسولاً يدعوهم إلى عبادته، والدخول في طاعته، ويزكيهم بما آتاه الله من العلم والحكمة- بعث فيهم لوطاً عليه السلام فدعاهم إلى التوحيد الخالص، وزجرهم عن الأفعال المنكرة التي يأتونها، والتي لم يسبقوا إليها، فأبوا عليه، وانصرفوا عنه، وازدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم، وأوصى بعضهم بعضاً بإخراج لوط من قريتهم.
قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:56].
ألا ما أفجرهم وأخبثهم حالاً ومآلاً ينبذون الطهر والأطهار، ويرضون لأنفسهم حياة الذل والعار، ولا يخافون من سوء العاقبة التي توعدهم الله بها على لسان نبيه لوط عليه السلام.
ولقد تلطف بهم لوط عليه السلام زمناً طويلاً، ودعاهم إلى الله على بصيرة بأسلوب حكيم متوج بالبراهين الساطعة، والحجج المقنعة، شأنه في ذلك شأن جميع الأنبياء، ولكن القوم صموا آذانهم وصمموا على إخراجه من قريتهم، فدعا ربه أن ينصره عليهم.
يقول الله عز وجل: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْـمُرْسَلِينَ160/26إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ 161/26إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ162/26فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ163/26وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ164/26أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ165/26وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ166/26قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْـمُخْرَجِينَ167/26قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ168/26رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء:160-169].
وتتصل أحداث قصة إبراهيم بأحداث قصة لوط، وينتقل المشهد من بين يدي إبراهيم إلى يدي لوط، فإذا هو وجهاً لوجه مع هؤلاء الرسل، الذين يحملون الهلاك إلى قومه.
وكما كان لقاء الملائكة لإبراهيم لقاءً مفاجئاً، أثار في نفسه ريبة، وأوقع في قلبه خوفاً، كذلك كان لقاؤهم للوط لقاءً مباغتاً له، ولكنه لم يلتفت إلى هؤلاء الوافدين عليه إلا من جهة واحدة، كانت هي مبلغ همه، ومبعث خوفه وقلقه، وهي أن يحمى هؤلاء الضيوف من عدوان قومه عليهم، وفضحه فيهم.
فقد طلع عليه الملائكة في صورة سوية من صور البشر، فيهم الشباب والنضارة والجمال، وتلك هي مغريات قومه بهم، وإنه ليرى من بعيد ما سيكون من قومه، إذا رأوا هؤلاء الضيوف الذين نزلوا بساحته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود:77].
سيء بهم: أي ساءه وآلمه نزولهم عنده، واحتماؤهم به.
وضاق بهم ذرعاً: أي أحس العجز عن حمايتهم، لأنه يتصدى وحده لقومه جميعاً، وأصل الذرع من الذراع التي يعملها الإنسان في تناول الأشياء ثم استعملت استعمالاً مجازياً في الدلالة على قدرة الإنسان أو عجزه، حسب طول ذراعه أو قصرها.
والإحساس بالمسؤولية الملقاة على لوط لحماية ضيوفه، هو الذي آلمه وأوجعه، وضيق مسالك النجاة بهم في وجهه، فقال: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي يوم قاس، شديد الوقع على النفس، لما سيطلع عليه فيه من أحداث مزلزلة، توقعه في هذا المأزق، وتفتح بينه وبين قومه مجالاً فسيحاً للصراع بين جبهتين غير متكافئتين.
ولقد وقع ما توقعه لوط عليه السلام فقد سمع القوم بضيفه فجاءوا يسرعون إليه يطلبون منه أن يمكنهم منهم، فوبخهم شر توبيخ، وذكرهم بالله الذي بيده نواصيهم، وحذرهم مغبة الفضيحة والعار، وردهم إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولكنهم أساءوا إليه القول، وأغلظوا له في السب، وأعلنوا أنه لابد لهم من ضيفه، وأنهم لا حاجة لهم في النساء، فعندئذ قال لوط في نفسه: لو كان لدى رجال مؤمنون ينصرونني، أو آوى إلى قوم لديهم نخوة وغيرة على الحرمات يحمونني.
يقول الله عز وجل: ﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ 78/11قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ 79/11قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود:78-80].
وانظر كيف تبلغ السفاهة بالقوم إلى هذا الحد القذر، إذ جاءوه جماعة يقتحمون عليه أسوار بيته بلا خجل ولا استحياء ليفعلوا الفاحشة مجتمعين، وليس أوزاعاً متفرقين، وعندما عرض عليهم بنات القرية ليتزوجوهن ويستمتعوا بهن حلالاً طيباً، يقولون له في وقاحة: ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ إننا لا نريد إلا الذكران.
وماذا يفعل لوط أمام هؤلاء القوم، الذين ركبوا رؤوسهم، فانقلبت في أعينهم أوضاع الأشياء، وتغيرت معالمها؟.
ولكن الله كان معه، وهو-جل شأنه- لن يتخلى عن رسله في أوقات الشدة، ولن يتركهم نهباً لأولئك الضالين، فأدركته عنايته، وأنطق رسله بالبشرى التي كان ينتظرها، وبالهلاك الذي كان ينتظرهم:
﴿قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود:81].
والأمر الذي توجه به الملائكة إلى لوط عليه السلام هو أن يخرج بأهله في بقية من الليل قبل أن يطلع الصبح، وألا يلتف هو ومن معه إلى الوراء حيث القرية التي تركوها وراء ظهورهم.
وفي النهي عن الالتفات إلى تلك القرية ومن فيها إشارة إلى أنها دار إثم، ومباءة فسق، ينبغي أن يقطع المؤمن كل مشاعره نحوها، فلا يتبعها بصره، ولا يلقى عليها نظرة وداع، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن مع كل منكر أن يعتزله، ويعتزل مواطنه والمتعاملين به، فلا يحوم حوله، ولا يمر بداره ولا يتصل بأهله، فإن المنكر مرض خبيث، يَعْلَق داؤه بكل من يدنو منه، أو يتنفس في الجو الذي تفوح عفونته فيه.
ولهذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين حين مروا بديار ثمود، وهم في طريقهم إلى تبوك- أمرهم أن يجدّوا في السير، وألا يلتفتوا إلى هذه المواطن وأن يغلقوا حواسهم عنها، حتى لا يدخل عليهم شيء منها، شأنهم في هذا شأن من يمر بجثث متعفنة، تهب منها ريح خبيثة فيسد أنفه وينطلق مسرعاً حتى يبرحها، وفي هذا درس عملي للتشنيع على المنكر وأهله.
ولما جاء الصبح الموعود، وقع الأمر الذي قضاه الله وقدره، أمر جبريل عليه السلام فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من نار جهنم مُعلَّمة، كل حجر يقع على من يشاء الله أن يقع عليه لا يخطئه ولا يصيب غيره، فذهبت معالم القرية بأسرها، وصار أهلها حديثاً تتناقله الأجيال، وآية للذين يخافون العذاب الأليم، وذلك جزاء الظالمين لم يعرفوا للحق موطناً، ولم يراعوا في رسولهم عهداً ولا ذمة.
وقد ذكرت هذه القصة لتكون عبرة لمشركي مكة ومن حولها على وجه الخصوص وللناس جميعاً على وجه العموم.
* * *