اعلم بادئ ذي بدء أنه لا مفاضلة ولا معادلة ولا موازنة بين قصص القرآن
وغيره بأي حال وعلى أي اتجاه. فإذا قلنا- أو قال غيرنا- إن قصص القرآن،
يتميز عن قصص الناس بكذا وكذا فإنه من باب ذكر بعض وجوه الإعجاز للعظة
والاعتبار بغض النظر عن المقارنة والمفاضلة والموازنة وما إلى ذلك، فأين
الثرى من الثريا!
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف:4].
وتتلخص خصائص القصص القرآني وسماته البلاغية فيما يأتي:
(أ) قَصَص القرآن منتزع من الواقع المشاهد معبر عن أحداث وقعت بدقة فائقة وأمانة تامة، ليس فيه شيء من الخيال بأي حال، فقد بنيت القصة القرآنية بناءً محكماً من لبنات الحقيقة المطلقة التي لا يطوف بحماها طائف من زيف أو تمويه، أو خلط أو تشويه، بخلاف القصص الذي يجري على ألسنة الناس، فإنه مشوب بذلك كله، مع إفراط في الخيال- غالباً- ومبالغة في أوصاف المشاهد وأقدار الأشخاص.
فليس قصص القرآن إذاً من قبيل الحكايات؛ لأن الحكاية مأخوذة من المحاكاة، وهي المماثلة في الأقوال والأفعال دون مجاوزة للتقليد والمحاكاة.
وليس قصص القرآن من قبيل الأساطير، كلا، فهو عنها بمعزل تام؛ لأن الأساطير من الأباطير التي يحكيها المبطلون من نسج الخيال ليس فيها من الحق شيء يذكر، وليس لها من باب الواقع مجال.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا 4/25وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا5/25قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان:4-6].
(ب) إن قصص القرآن الكريم قد جاء على وفق الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولا انتفاع به، فهو وإن يكن سماويَّ المَطْلع فهو بشرىُّ الصورة، إنساني المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة، يقرأه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرأون أطواء أنفسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم، ومن هنا فهم يعيشون فيه، ويحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض، بصوبها الغيث فيقع منها مواقع مختلفة بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب.
(جـ) ليس القصص القرآني تأريخاً للبشرية على النمط الذي يسلكه علماء التاريخ والسير في تتبع الأحداث وتسلسلها، وتحليلها وتعليلها في أزمانها وأماكنها المختلفة، ولكنه قصص مختار مقتطع من التاريخ بالقدر الذي يخدم الدعوة إلى الله عز وجل، ويفتح للناس أبواباً واسعة للتأمل والنظر، والعظة والاعتبار.
(د) والقدر الذي جاء به القرآن كافٍ في توجيه النفوس إلى ما يصلح شأنها ويُقوِّم عوجها بأسلوب مقنع ومؤثر، شأنه في ذلك شأن القرآن كله، فالنظم القرآني معجز في تعبيره، دقيق في تصويره رائع في بيانه، فكل حسن إلى حسنه باهت، وكل جمال إلى جماله ماحل، وكل جلال إلى جلاله ظل زائل.
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:88].
(ه) في قصص القرآن توزيع عادل للمشاهد القصصية بين الحدث والشخصية بحسب متطلبات المقاصد السامية من عرض القصة في موطنها المناسب لها بحيث تبدو الشخصية تأثير مباشر على السامع، فالأشخاص في القصص القرآني لا يقصدون لذواتهم- من حيث إنهم أشخاص تاريخيون يؤرخ لهم بإبراز معالمهم وتمجيد أعمالهم- ولكنهم يذكرون كنماذج بشرية في مجال الحياة الخَيِّرة أو الشريرة، في صراعها مع الخير والشر، وفي تجاوبها أو تعاندها مع الأخيار والأشرار، وكذلك الشأن في الأحداث التي يعرضها القرآن في قصصه إنها ليست إلا مَحاكَّ اختبار تظهر فيها معادن الرجال، وتختبر بها مواطن القوة والضعف فيهم، ومنازع الإحسان والسوء منهم.
بخلاف القصص البشري فإنه تغلب عليه الصبغة التاريخية، والاهتمام بإبراز معالم الشخصية على حساب الأحداث، التي لو أبرزت بعناية واهتمام لكان للقصة طابع إنساني تفيد منه البشرية في معرفة كوامن الخير ونوازع الشر.
(و) عنصر الزمان وعنصر المكان لا يعد كل منهما من العنصر الأساسية في القصة القرآنية؛ لأن القصص القرآني ليس من باب التاريخ- كما أشرنا- ولكنه عظات وعبر ونصح وتوجيه، فلا يذكر فيه الزمان ولا المكان إلا إذا تعلق بذكرهما فائدة.
وذكر الأسماء في القصص القرآني أمر ثانوي أيضاً، فكثير من الشخصيات التي تحدث القرآن عنها لم يذكر لنا أسماءهم كالخضر ومؤمن آل فرعون، وفرعون موسى، وعزيز مصر في قصة يوسف، والملك الذي أسلم ليوسف زمام الأمور في مصر، والذي حاج إبراهيم في ربه.. الخ؛ لأن ذكر هذه الأسماء ليس هو المقصود بالذات، ولكن المقصود هو ما وقع لهم أو ما جرى على أيديهم من الأحداث التي تخدم المقاصد والأهداف التي جاء القصص من أجلها.
وقد ذكرت أسماء أصحاب الرسالات السماوية؛ لأن الإيمان بهم واجب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتدى بهم في عباداتهم وعاداتهم، وأن يسير على نهجهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
(ز) ونرى أن القصة الواحدة تتكرر في عدة مواضع بأساليب مختلفة لحكم بالغة وأهداف سامية توسع الباحثون في دراستها، وانتهوا- بقدر طاقتهم البشرية- إلى أن هذه الظاهرة لا تعد تكراراً في الحقيقة ولكنها صور للمواقف والمشاهد المختلفة، تختلف لتأتلف فتنتظم منها قصة بأكملها بعد أن وزعت جوانبها في مواطن متعددة قد استدعتها لخدمة المقاصد العامة والخاصة التي سيأتي ذكرها.
فما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات في الواقعة الواحدة أو الحدث الواحد ليس إلا تجميعاً لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة، أو ليس إلا التقاطاً لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآني وحده على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء.
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية يؤدي وظيفة حيوية في إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لابد أن تعاد العبارة مرة ومرة لكي تحمل في كل مرة بعضاً من عناصر المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطي صورة مقاربة للمشهد كله.
فالقرآن الكريم يعرض المشاهد بأبعادها وأعماقها، وحركاتها وسكناتها، ونطقها وصمتها، ووسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، وبحيث يستطيع القارئ أن يعايش القصة صادقة إن كان يحمل في قلبه إيماناً قوياً، وعقلاً ذكياً ونظراً ثاقباً، حتى كأنه كان مع أشخاص هذه القصة يشاركهم آمالهم وآلامهم، ويجاذبهم أقوالهم وأفعالهم، ولو جمعت القصة كلها في موطن واحد لفات الكثير والكثير من مواطن العبرة والعظة، ولضاعت معالم الإعجاز البياني ومناحيه المختلفة، ووجوهه التي لا تتألق إلا في ظل هذا التكرار، ولأشبهت القصة القرآنية القصة التاريخية، التي لا تعني إلا بإبراز الشخصيات والحوادث من غير نظر إلى الاتعاظ والاعتبار والتوجيه، ولما وجد الأحكام القرآنية والمناهج التربوية ما يبرزها في صور تجسد المعاني وتحفر لها في الأذهان مكاناً.
وبالجملة: فإن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآني هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلى فيه روعة الكلمة وجلالها بحيث لا يرى لها وجه في آية لغة وفي أية صورة من صور البيان يقارب هذا الوجه في جلاله وروعته وسطوته.
(حـ) ويتميز قصص القرآن الكريم بتعبيره الفني العجيب عن المواقف المختلفة بأساليب متنوعة، تنسجم الانسجام كله مع تلك المواقف دون أن يؤثر ذلك على الإطار العام للقصة والنسق الفريد للنظم، فأسلوب الرسل في التخاطب ليس كأسلوب عامة الناس، وأسلوب الملوك ليس كأسلوب السوقة، وأسلوب الرجال ليس كأسلوب النساء، وأسلوب المتكلم في حالة الرضا ليس كأسلوبه في حالة الغضب.. إلى آخر ما هنالك من الأساليب القصصية التي تنتقل بك من مشهد إلى مشهد من غير أن تشعر بالنقلة أو تجد فجوة تقطع عليك حبال تفكيرك فيما سبق مشهد من غير أن تشعر بالنقلة أو تجد فجوة تقطع عليك حبال تفكيرك فيما سبق ذكره. فأنت ترى نفسك حين ينقلك أسلوب القصص القرآني من مشهد إلى مشهد أو من حادثة إلى أخرى كأنك تتجول في بستان واحد متشابك الأغصان متماسك الأفنان، كلما خطوت خطوة نظرت إلى ما يعجبك ويروقك فتقول في نفسك: هذا المشهد أعجب من سابقه ثم تجد في نهاية المطاف أن المشاهد كلها ف العجب سواء. ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:2]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82]، ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف:4].
ومهما استنبط الدارسون من آيات الجمال والجلال في القصص القرآني فلن ينتهوا إلا إلى القليل الذي لا يساوي قطرة في بحر.
وسنرى في خلال دراستنا لهذا القصص المبارك كثيراً من اللطائف البيانية ذات الأثر الفعال في جمال التعبير ودقة التصوير وروعة البيان.
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف:4].
وتتلخص خصائص القصص القرآني وسماته البلاغية فيما يأتي:
(أ) قَصَص القرآن منتزع من الواقع المشاهد معبر عن أحداث وقعت بدقة فائقة وأمانة تامة، ليس فيه شيء من الخيال بأي حال، فقد بنيت القصة القرآنية بناءً محكماً من لبنات الحقيقة المطلقة التي لا يطوف بحماها طائف من زيف أو تمويه، أو خلط أو تشويه، بخلاف القصص الذي يجري على ألسنة الناس، فإنه مشوب بذلك كله، مع إفراط في الخيال- غالباً- ومبالغة في أوصاف المشاهد وأقدار الأشخاص.
فليس قصص القرآن إذاً من قبيل الحكايات؛ لأن الحكاية مأخوذة من المحاكاة، وهي المماثلة في الأقوال والأفعال دون مجاوزة للتقليد والمحاكاة.
وليس قصص القرآن من قبيل الأساطير، كلا، فهو عنها بمعزل تام؛ لأن الأساطير من الأباطير التي يحكيها المبطلون من نسج الخيال ليس فيها من الحق شيء يذكر، وليس لها من باب الواقع مجال.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا 4/25وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا5/25قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان:4-6].
(ب) إن قصص القرآن الكريم قد جاء على وفق الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولا انتفاع به، فهو وإن يكن سماويَّ المَطْلع فهو بشرىُّ الصورة، إنساني المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة، يقرأه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرأون أطواء أنفسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم، ومن هنا فهم يعيشون فيه، ويحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض، بصوبها الغيث فيقع منها مواقع مختلفة بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب.
(جـ) ليس القصص القرآني تأريخاً للبشرية على النمط الذي يسلكه علماء التاريخ والسير في تتبع الأحداث وتسلسلها، وتحليلها وتعليلها في أزمانها وأماكنها المختلفة، ولكنه قصص مختار مقتطع من التاريخ بالقدر الذي يخدم الدعوة إلى الله عز وجل، ويفتح للناس أبواباً واسعة للتأمل والنظر، والعظة والاعتبار.
(د) والقدر الذي جاء به القرآن كافٍ في توجيه النفوس إلى ما يصلح شأنها ويُقوِّم عوجها بأسلوب مقنع ومؤثر، شأنه في ذلك شأن القرآن كله، فالنظم القرآني معجز في تعبيره، دقيق في تصويره رائع في بيانه، فكل حسن إلى حسنه باهت، وكل جمال إلى جماله ماحل، وكل جلال إلى جلاله ظل زائل.
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:88].
(ه) في قصص القرآن توزيع عادل للمشاهد القصصية بين الحدث والشخصية بحسب متطلبات المقاصد السامية من عرض القصة في موطنها المناسب لها بحيث تبدو الشخصية تأثير مباشر على السامع، فالأشخاص في القصص القرآني لا يقصدون لذواتهم- من حيث إنهم أشخاص تاريخيون يؤرخ لهم بإبراز معالمهم وتمجيد أعمالهم- ولكنهم يذكرون كنماذج بشرية في مجال الحياة الخَيِّرة أو الشريرة، في صراعها مع الخير والشر، وفي تجاوبها أو تعاندها مع الأخيار والأشرار، وكذلك الشأن في الأحداث التي يعرضها القرآن في قصصه إنها ليست إلا مَحاكَّ اختبار تظهر فيها معادن الرجال، وتختبر بها مواطن القوة والضعف فيهم، ومنازع الإحسان والسوء منهم.
بخلاف القصص البشري فإنه تغلب عليه الصبغة التاريخية، والاهتمام بإبراز معالم الشخصية على حساب الأحداث، التي لو أبرزت بعناية واهتمام لكان للقصة طابع إنساني تفيد منه البشرية في معرفة كوامن الخير ونوازع الشر.
(و) عنصر الزمان وعنصر المكان لا يعد كل منهما من العنصر الأساسية في القصة القرآنية؛ لأن القصص القرآني ليس من باب التاريخ- كما أشرنا- ولكنه عظات وعبر ونصح وتوجيه، فلا يذكر فيه الزمان ولا المكان إلا إذا تعلق بذكرهما فائدة.
وذكر الأسماء في القصص القرآني أمر ثانوي أيضاً، فكثير من الشخصيات التي تحدث القرآن عنها لم يذكر لنا أسماءهم كالخضر ومؤمن آل فرعون، وفرعون موسى، وعزيز مصر في قصة يوسف، والملك الذي أسلم ليوسف زمام الأمور في مصر، والذي حاج إبراهيم في ربه.. الخ؛ لأن ذكر هذه الأسماء ليس هو المقصود بالذات، ولكن المقصود هو ما وقع لهم أو ما جرى على أيديهم من الأحداث التي تخدم المقاصد والأهداف التي جاء القصص من أجلها.
وقد ذكرت أسماء أصحاب الرسالات السماوية؛ لأن الإيمان بهم واجب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتدى بهم في عباداتهم وعاداتهم، وأن يسير على نهجهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
(ز) ونرى أن القصة الواحدة تتكرر في عدة مواضع بأساليب مختلفة لحكم بالغة وأهداف سامية توسع الباحثون في دراستها، وانتهوا- بقدر طاقتهم البشرية- إلى أن هذه الظاهرة لا تعد تكراراً في الحقيقة ولكنها صور للمواقف والمشاهد المختلفة، تختلف لتأتلف فتنتظم منها قصة بأكملها بعد أن وزعت جوانبها في مواطن متعددة قد استدعتها لخدمة المقاصد العامة والخاصة التي سيأتي ذكرها.
فما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات في الواقعة الواحدة أو الحدث الواحد ليس إلا تجميعاً لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة، أو ليس إلا التقاطاً لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآني وحده على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء.
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية يؤدي وظيفة حيوية في إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لابد أن تعاد العبارة مرة ومرة لكي تحمل في كل مرة بعضاً من عناصر المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطي صورة مقاربة للمشهد كله.
فالقرآن الكريم يعرض المشاهد بأبعادها وأعماقها، وحركاتها وسكناتها، ونطقها وصمتها، ووسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، وبحيث يستطيع القارئ أن يعايش القصة صادقة إن كان يحمل في قلبه إيماناً قوياً، وعقلاً ذكياً ونظراً ثاقباً، حتى كأنه كان مع أشخاص هذه القصة يشاركهم آمالهم وآلامهم، ويجاذبهم أقوالهم وأفعالهم، ولو جمعت القصة كلها في موطن واحد لفات الكثير والكثير من مواطن العبرة والعظة، ولضاعت معالم الإعجاز البياني ومناحيه المختلفة، ووجوهه التي لا تتألق إلا في ظل هذا التكرار، ولأشبهت القصة القرآنية القصة التاريخية، التي لا تعني إلا بإبراز الشخصيات والحوادث من غير نظر إلى الاتعاظ والاعتبار والتوجيه، ولما وجد الأحكام القرآنية والمناهج التربوية ما يبرزها في صور تجسد المعاني وتحفر لها في الأذهان مكاناً.
وبالجملة: فإن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآني هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلى فيه روعة الكلمة وجلالها بحيث لا يرى لها وجه في آية لغة وفي أية صورة من صور البيان يقارب هذا الوجه في جلاله وروعته وسطوته.
(حـ) ويتميز قصص القرآن الكريم بتعبيره الفني العجيب عن المواقف المختلفة بأساليب متنوعة، تنسجم الانسجام كله مع تلك المواقف دون أن يؤثر ذلك على الإطار العام للقصة والنسق الفريد للنظم، فأسلوب الرسل في التخاطب ليس كأسلوب عامة الناس، وأسلوب الملوك ليس كأسلوب السوقة، وأسلوب الرجال ليس كأسلوب النساء، وأسلوب المتكلم في حالة الرضا ليس كأسلوبه في حالة الغضب.. إلى آخر ما هنالك من الأساليب القصصية التي تنتقل بك من مشهد إلى مشهد من غير أن تشعر بالنقلة أو تجد فجوة تقطع عليك حبال تفكيرك فيما سبق مشهد من غير أن تشعر بالنقلة أو تجد فجوة تقطع عليك حبال تفكيرك فيما سبق ذكره. فأنت ترى نفسك حين ينقلك أسلوب القصص القرآني من مشهد إلى مشهد أو من حادثة إلى أخرى كأنك تتجول في بستان واحد متشابك الأغصان متماسك الأفنان، كلما خطوت خطوة نظرت إلى ما يعجبك ويروقك فتقول في نفسك: هذا المشهد أعجب من سابقه ثم تجد في نهاية المطاف أن المشاهد كلها ف العجب سواء. ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:2]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82]، ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف:4].
ومهما استنبط الدارسون من آيات الجمال والجلال في القصص القرآني فلن ينتهوا إلا إلى القليل الذي لا يساوي قطرة في بحر.
وسنرى في خلال دراستنا لهذا القصص المبارك كثيراً من اللطائف البيانية ذات الأثر الفعال في جمال التعبير ودقة التصوير وروعة البيان.
* المرجع: قصص القرآن: د. محمد بكر إسماعيل.